الموعظة الأُولى
[ 1 ] و في حديثه (عليه السلام) : فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ضَرَبَ يَعْسُوبُ اَلدِّينِ بِذَنَبِهِ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ اَلْخَرِيفِ .
قال الرضي : يعسوب الدين: اليعسوب السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ و القزع قطع الغيم التي لا ماء فيها .
الموعظة الثانية
[ 2 ] و في حديثه (عليه السلام)هَذَا اَلْخَطِيبُ اَلشَّحْشَحُ.
يريد الماهر بالخطبة الماضي فيها و كل ماض في كلام أو سير فهو شحشح و الشحشح في غير هذا الموضع : البخيل الممسك .
الموعظة الثالثة
[ 3 ] و في حديثه (عليه السلام) إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً .
يريد بالقحم المهالك لأنها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر. و من ذلك «قحمة الأعراب» و هو أن تصيبهم السنة فتتعرق أموالهم(1) فذلك تقحمها فيهم و قيل فيه وجه آخر: و هو أنها تقحمهم بلاد الريف ، أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند محول البدو .
1. تَتَعَرّق أموالهم: من قولهم تَعَرّقَ فلان العظمَ أي أكل جميع ما عليه من اللحم.
الموعظة الرابعة
[ 4 ] و في حديثه (عليه السلام) إِذَا بَلَغَ اَلنِّسَاءُ نَصَّ اَلْحِقَاقِ فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى.
والنص : منتهى الأشياء و مبلغ أقصاها كالنص في السير لأنه أقصى ما تقدر عليه الدابة . و تقول : نصصت الرجل عن الأمر، إذا استقصيت مسألته عنه لتستخرج ما عنده فيه. فنص الحقاق يريد به الإدراك ، لأنه منتهى الصغر، و الوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبير و هو من أفصح الكنايات عن هذا الأمر و أغربها. يقول : فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها ، إذا كانوا محرما ، مثل الإخوة و الأعمام ؛ و بتزويجها إن أرادوا ذلك. و الحقاق : محاقة الأم للعصبة في المرأة و هو الجدال و الخصومة و قول كل واحد منهما للآخر:«أنا أحق منك بهذا» يقال منه: حاققته حقاقا، مثل جادلته جدالا . و قد قيل :«إن نص الحقاق» بلوغ العقل و هو الإدراك؛ لأنه عليه السلام إنما أراد منتهى الأمر الذي تجب فيه الحقوق و الأحكام و من رواه «نص الحقائق» فإنما أراد جمع حقيقة.
هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام و الذي عندي أن المراد بنص الحقاق هاهنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها و تصرفها في حقوقها، تشبيها بالحقاق من الإبل و هي جمع حقة و حق و هو الذي استكمل ثلاث سنين و دخل في الرابعة و عند ذلك يبلغ إلى الحد الذي يتمكن فيه من ركوب ظهره و نصه في السير و الحقائق أيضا: جمع حقة . فالروايتان جميعا ترجعان إلى معنى واحد و هذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولا .
الموعظة الخامسة
[ 5 ] و في حديثه (عليه السلام) إِنَّ اَلْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي اَلْقَلْبِ كُلَّمَا اِزْدَادَ اَلْإِيمَانُ اِزْدَادَتِ اَللُّمْظَةُ .
و الُّلمْظَةُ مثل النكتة أو نحوها من البياض و منه قيل فرس ألمظ إذا كان بجحفلته(1) شيء من البياض .
[ 6 ] و في حديثه (عليه السلام) إِنَّ اَلرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ اَلدَّيْنُ اَلظَّنُونُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ .
فالظنون: الذي لا يعلم صاحبه أ يقبضه من الذي هو عليه أم لا فكأنه الذي يظن به فمرة يرجوه و مرة لا يرجوه و هذا من أفصح الكلام و كذلك كل أمر تطلبه و لا تدري على أي شيء أنت منه فهو ظنون و على ذلك قول الأعشى:
الموعظة السادسة
ما يجعل الجد الظنون الذي***جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما***يقذف بالبوصي و الماهر
والجُدّ: البئر العادية في الصحراء و الظنون: التي لا يعلم هل فيها ماء أم لا .
الموعظة السابعة
[ 7 ] و في حديثه (عليه السلام) أنَّهُ شَيَّعَ جَيْشاً بِغَزْيَةٍ فَقَالَ اِعْذِبُوا (1) عَنِ اَلنِّسَاءِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ .
و معناه: اصدفوا عن ذكر النساء و شغل القلب بهن و امتنعوا من المقاربة لهن ، لأن ذلك يفت (2) في عضد الحمية و يقدح في معاقد العزيمة (3) و يكسر عن (4) العدو(5) و يلفت عن الإبعاد في الغزو فكل من امتنع من شيء فقد عذب عنه و العاذب و العذوب الممتنع من الأكل و الشرب .
1- اعْذِبُوا: أي أَعرضوا واتركوا.
2- الفَتّ: الدق والكَسر، وفَتّ في ساعده ـ من باب نصر ـ أي: أضعفه كأنه كسره.
3- مَعَاقِدُ العزيمة: مواضع انعقادها وهي القلوب، وقدح فيها: بمعنى خرقها كناية عن أوْهَنَها.
4- ( يكسر عنه): يؤخّر عنه.
5- العَدْو ـ بفتح فسكون ـ : الجَرْي.
الموعظة الثامنة
[ 8 ] و في حديثه (عليه السلام) كَالْيَاسِرِ اَلْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ .
الياسرون: (1) هم الذين يتضاربون (2) بالقداح على الجزور(3) و الفالج : القاهر و الغالب يقال: فلج (4) عليهم و فلجهم و قال الراجز: لما رأيت فالجا قد فلجا .
1- الياسِرُون: اللاعِبون بالميْسِر، وهو القمار.
2- يتضاربون بالقِداح: أي يقامرون بالسهام على النصيب من الناقة.
3- الجَزُور ـ بفتح الجيم ـ : الناقة المجزورة، أي المنحورة.
4- فَلَجَ ـ من باب ضرب و نصر ـ : فاز و انتصر.
الموعظة التاسعة
9 ] و في حديثه (عليه السلام) كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ اِتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اَللَّهِ ص فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ .
و معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو و اشتد عضاض الحرب(1) فزع المسلمون (2) إلى قتال رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) بنفسه فينزل الله عليهم النصر به و يأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه.
و قوله «إذَا احمّر البأس» كناية عن اشتداد الأمر و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها : أنه شبه حمي (3) الحرب بالنار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها و مما يقوي ذلك قول رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) و قد رأى مجتلد(4) الناس يوم حنين و هي حرب هوازن: «الآن حَمِيَ الوَطِيسُ» فالوطيس: مستوقد النار فشبه رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) ما استحر(5) من جلاد القوم باحتدام النار و شدة التهابها .
1- العِضاض ـ بكسر العين ـ : أصله عضّ الفرس، مجاز عن إهلاكها للمتحاربين.
2- فَزِع المسلمون:لجؤوا إلى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه.
3- الحَمْيُ ـ بفتح فسكون ـ : مصدر حَمِيَت النار: اشتدّ حرّها.
4- مُجْتَلَد ـ مصدر ميمي من الاجتلاد ـ أي: الاقتتال.
5. اسْتَحرّ: اشتدّ، والجِلاد: القتال.